فالخلاف وقع بسبب هذا الغلو الذي ظهرت به
الخوارج ، أما خلاف
الشيعة فلم يكن غلواً، وإنما كان نفاقاً، حيث كانوا يظهرون أنهم يحبون الدين والإسلام وهم في الحقيقة زنادقة، ولهذا أقام
علي الحد عليهم بالنار، وقال:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراًفأصل مذهب
الرافضة هو النفاق، أما أصل مذهب
الخوارج فهو الغلو، ولهذا نجد أن من ينتمون إلى مذهب
الخوارج فيهم من العبادة وفيهم من الشدة في الحق الشيء الكثير، حتى إنه لما رآهم
أبو سعيد و
ابن عباس رضي الله عنهما تعجبا من شدة عبادتهم ومن شدة اجتهادهم، فقد كان يسمع لهم دوي كدوي النحل بالقرآن، وهذا ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الحديث، حيث قال: (
تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وقراءتكم إلى قراءتهم )، وكانوا يرون أن على الإنسان أن يتجرد من أهله ونفسه وماله للحق ولا يبالي بالمخالفين قلوا أو كثروا، وهذا غلو ناشئ عن صدق في التدين، ولكنه تجاوز حده إلى الغلو المذموم. أما من انتسبوا إلى
الرافضة فالغالب عليهم في جميع العصور هو الزندقة، ولهذا دخلت تحتهم
الباطنية وسائر الزنادقة، حتى قال رجل من جيران المحدث المشهور
أبي الربيع الزهراني لما تاب وأناب -كما ذكر ذلك
البخاري في
خلق أفعال العباد ورواه غيره- قال: إنا وجدنا أن أقرب الناس وأيسرهم مدخلاً في هذه الأمة هم
الرافضة فدخلنا للناس من بابهم. فالزنادقة الذين لا يؤمنون بالدين أصلاً يدخلون للناس من باب الرفض، حيث يبدءون بتكفير الشيخين وسائر الصحابة سوى
علي وأبنائه ومن معه، ثم يعودون فينكرون على
علي صنيعه، ثم ينكرون على
الحسن تنازله، ثم ينتهون بتكفير الجميع ويخرجون الناس عن الإسلام بالكلية، وهذا هو هدفهم.فـ
الخوارج كفروا الناس بالمعاصي ولم يفرقوا بين معصية ومعصية، وكان نتيجة ذلك الانشقاق، وإذا أردت أن تعرف علامة مميزة من علامات أهل البدع فهي التفرق والانشقاق، فينشقون عن
أهل السنة أولاً ثم ينشقون فيما بينهم؛ لأنهم يرون أن ما انشقوا به في الأصل عن الأمة متحقق لينشق بعضهم عن بعض، فيحصل الانشقاق بينهم، ويصبح هذا يكفر هذا وهذا يضلل هذا وهذا يبدع هذا، كما كانوا في الأصل فقد كانوا يبدعون ويضللون
أهل السنة ، فكفروا
عثمان و
علياً ، وكانوا يقولون: لا بد من أن يسيرا بسيرة الشيخين، ولا نرضى إلا بأن يسيرا سيرة الشيخين! والحال أنه لو لم يسيرا بسيرة الشيخين فرضاً فما ذلك إلا لأن الله ميز الشيخين وجعلهما أفضل الأمة، ثم من جاء بعدهما كان دونهما، ومن كان كذلك هل تلغى بيعته وخلافته وإمامته ويجحد فضله كله، بل ويكفر ؟! ولما ناظرهم الصحابة قالوا: إن جئتمونا بمثل
عمر بايعناه، وإذا لم تأتونا بمثله تركنا
علياً وبيعته. وكانوا بضعة آلاف، فتركوا بيعة
علي وأمروا
عبد الله بن وهب رجل من أعراب بني راسب قال عنه
ابن حزم : أعرابي بوال على عقبيه لا سابقة له في الإسلام ولا فضل، ولا شهد الله له بخير. فيا سبحان الله! استبدلوا بـ
علي هذا الرجل وجعلوه مثل
عمر رضي الله عنه! وهذا حال كل من غلا في شيء وترك الحق، أو فر به غلوه عن معرفة فضل المجتهدين في الأمة كالأئمة الأربعة و
الثوري و
الأوزاعي و
الليث بن سعد وأمثالهم، ورفض أقوالهم بالكلية. ونحن لا نريد التعصب، فمنهج
أهل السنة والجماعة واضح في التعصب، لكن من رفض هؤلاء وأقوالهم لا بد له من فقيه، وهذا أمر طبيعي، فمن يكون فقيهه بعد ذلك؟! فبعضهم يأتي بأقوال
الظاهرية ، وبعضهم يأتي بأقوال أشخاص لا يساوون شيئاً بالنسبة لهؤلاء الأئمة.فالسنة واحدة في القضايا العلمية والاعتقادية وقضايا الخلاف وفي كل الأمور، وهي أنه من أبى إلا الكمال واشترطه، وجحد وغمط من نقص عن الكمال؛ فإنه لن يأتي إلا بأنقص منه بكثير حتى لا يكاد يكون فيه شيء من الخير. لكن العدل والقصد والوسط أن الإنسان يعتقد أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الفضل يزيد وينقص، وأن الخير يزيد وينقص، وأن الله فضل بعض النبيين على بعض، وفضل بعض الدعاة على بعض، وفي كل خير، ولكلٍ فضله، ولكل اجتهاده.